سورة الكهف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ} أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. وأعثر تعدية عثر بالهمزة، واصل العثار في القدم. {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعني الامة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض.
وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعا، فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدرى كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره، فسر الملك بذلك وقال: لعل الله قد بعث لكم آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الامر وأن الامة أمة إسلام، فروى أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى {أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ. لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق {إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}. وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم. فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا، فقال الذين. هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجدا.
وروى أن طائفة كافرة قالت: نبنى بيعة أو مضيفا، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا.
وروى أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين.
وروى عن عبد الله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا الملك إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم.
وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل، فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا. وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة، فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهى عنه ممنوع لا يجوز، لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. قال الترمذي: وفى الباب عن أبى هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن.
وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وام سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أولئك ذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة». لفظ مسلم. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد.
وروى الأئمة عن أبى مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدى إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد».
وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا.
وروى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الصحيح عن أبى الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبى طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته- في رواية- ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي. قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة.
وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبر صاحبيه رضي الله عنهما- على ما ذكر مالك في الموطأ- وقبر أبينا آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس. وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهى أن ينبغي أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح.
وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر.
وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة، لما رواه أبو بكر الأثرم قال: حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة، ذكره أبو عمر. وأما الجائزة- فالدفن في التابوت، وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة. روى أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين، فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفى الصحيح عن سعد ابن أبى وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: اتخذوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا، كما صنع برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللحد: هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق، لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبه قال أبو حنيفة قال: السنة اللحد.
وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد.
وقال الشافعي: لا بأس به لأنه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه، لان الآجر لأحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الأحكام. وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر.
وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا، فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللبن والقصب لما روى أنه وضع على قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزمة من قصب. وحكى عن الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد. قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن المدينة سبخة، قال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر. قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن صحيح غريب.


{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)}
قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الضمير في {سَيَقُولُونَ} يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذلك أنهم اختلفوا عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص.
وقيل: المراد به النصارى، فإن قوما منهم حضروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم.
وقال المسلمون: كانوا سبعة ثامنهم كلبهم.
وقيل: هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أصحاب الكهف. والواو في قول: {وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا غاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام. وقالت فرقة منها ابن خالويه: هي واو الثمانية. وحكى الثعلبي عن أبى بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية، فتدخل الواو في الثمانية. وحكى نحوه القفال، فقال:
إن قوما قالوا العدد ينتهى عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ}- ثم قال- {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ}. يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم {حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها} بلا واو، ولما ذكر الجنة قال: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بالواو. وقال: {خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ} ثم قال: {وَأَبْكاراً} فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا. قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} ولم يذكر الاسم الثامن بالواو.
وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة: إنما ذكر الواو في قوله: {سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ} لينبه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للإعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين {رَجْماً بِالْغَيْبِ} ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء، فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم. والرجم: القول بالظن، يقال لكل ما يخرص: رجم فيه ومرجوم ومرجم، كما قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم
قلت: قد ذكر الماوردي والغزنوي: وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى: {وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي صاحب كلبهم. وهذا مما يقوى طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا.
وقال القشري: لم يذكر الواو في قوله: رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ}. وفى موضع آخر: {إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى}. قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل. ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. والمراد به قوم من أهل الكتاب، في قول عطاء. وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القلطي ودون الكردي.
وقال محمد بن سعيد بن المسيب: هو كلب صيني. والصحيح أنه زبيري. وقال: ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو الحيري عنى. قوله تعالى: {فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً} أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى.
وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك. وفى هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لاحد عددهم فلهذا قال: {إِلَّا مِراءً ظاهِراً} أي ذاهبا، كما قال:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ***
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله: {إِلَّا مِراءً} استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله: {فِيهِمْ} عائد على أهل الكهف. وفى قوله: {مِنْهُمْ} عائد على أهل الكتاب المعارضين. وقوله: {فَلا تُمارِ فِيهِمْ} يعني في عدتهم، وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها. قوله تعالى: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} روى أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهى عن السؤال. وفى هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.


{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)}
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} فيه مسألتان: الأولى: قال العلماء: عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: غدا أخبركم بجواب أسئلتكم، ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحى عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إنى أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر، فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه. واللام في قوله: {لِشَيْ ءٍ} بمنزلة في، أو كأنه قال لأجل شي.
الثانية: قال ابن عطية: وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الايمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين. وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز، تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول إن شاء الله. فالمعنى: إلا أن يذكر مشيئة الله، فليس {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} من القول الذي نهى عنه. قلت: ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش. قال البصريون: المعنى إلا بمشيئة الله. فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله. قال ابن عطية: وقالت فرقة {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} استثناء من قوله: {وَلا تَقُولَنَّ}. قال: وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى. وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في {المائدة}. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ} فيه مسألة واحدة، وهو الامر بالذكر بعد النسيان واختلف في الذكر المأمور به، فقيل: هو قوله: {وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء.
وقال الجمهور: هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص.
وقيل: هو قوله: {إِنْ شاءَ اللَّهُ} [الصافات: 102] الذي كان نسيه عند يمينه. حكى عن ابن عباس أنه إن نسى الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا. وهو قول مجاهد. وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبى العالية في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ} قال: يستثنى إذا ذكره. الحسن: ما دام في مجلس الذكر. ابن عباس: سنتين، ذكره الغزنوي قال: فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم. فأما الاستثناء المفيد حكما فلا يصح إلا متصلا. السدى: أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها.
وقيل: استثن باسمه لئلا تنسى.
وقيل: اذكره متى ما نسيته.
وقيل: إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه.
وقيل: اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك، فذلك حقيقة الذكر. وهذه الآية مخاطبة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى استفتاح كلام على الأصح، ولست من الاستثناء في المين بشيء، وهى بعد تعم جميع أمته، لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه. والله الموفق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9